في مطلع الثمانينات من القرن الماضي وقف وزير الدفاع الأمريكي "روبرت ماكنمارا" في مجلس النواب الأمريكي ليعرض تقريرًا خطيرًا، أمام لجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس النواب الأمريكي، كانت أهم فقرة فيه ما يلي: "إن مصالح أمتنا في القارة الإفريقية مركزها أثيوبيا"؛ ومن هنا كانت الصلة الوثيقة والراسخة بين المعسكر الغربي عامة، تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والحبشة أو أثيوبيا كما يحب صليبيو الحبشة أن يطلقوا على بلادهم، وذلك للتعمية والتخلص من الاسم العربي للبلاد وهو "الحبشة"، وكانت أمريكا تعمل دائمًا لإبراز أهمية الحبشة في القارة الإفريقية؛ كي تستطيع تنفيذ سياستها الاستعمارية من وراء ذلك، وقد سعت كثيرًا وضغطت أكثر وأنفقت أموالاً ضخمة حتى تكون أديس أبابا مركز منظمة الوحدة الإفريقية.
وعلى امتداد التعاون الوثيق بين أمريكا والحبشة، تعاون الكيان اليهودي الغاصب مع الأحباش تعاونًا قويًا متينًا, واعتبرت الحبشة نفسها دولة اليهود في إفريقيا، وقامت بتهجير يهود الحبشة المعروفين بالفلاشا بأعداد ضخمة إلى دولة الكيان الصهيوني؛ لإحداث توازن ديموغرافي بين اليهود والفلسطينيين، وفي المقابل انهالت المعونات المالية والعسكرية والتقنية اليهودية على الحبشة، وتدفق الخبراء العسكريون اليهود على الحبشة، وأقاموا معسكرات تدريب للأحباش على حرب العصابات للعمل ضد المقاومة الإسلامية في إريتريا والأوجادين؛ حتى بلغ عدد العسكريين اليهود في الحبشة ثلاثة آلاف خبير عسكري يعملون في مختلف القطاعات، وباشروا القتال الفعلي ضد مسلمي إريتريا والأوجادين وهرر.
فلماذا إذاً من دون البلدان الإفريقية الكثيرة اختارت أمريكا وربيبتها إسرائيل دولة الحبشة لإقامة هذا الحلف المتين؟
الإجابة على هذا السؤال تتلخص في عبارة واحدة مفادها: أن الأحباش والأمريكان واليهود تجمعهم أيدلوجية واحدة، تسيطر على عقولهم، وتحكم قراراتهم وتوجهاتهم هذه الأيدلوجية تقوم على فكرة مزج عقائد الصليبية الأرثوذكسية والبروتستانتية الأصولية مع الصهيونية المتطرفة؛ لتمثل في النهاية أسوأ العقائد والأيدلوجيات الدينية، والتي تنتهج مبدأ عداوة الإسلام والمسلمين ومحاربتهم، وهذا المبدأ هو ركيزة هذه الأيدلوجية والمحرك الرئيس، وبالتالي الموجّه العام لسياسات هذه الدول الثلاث التي تمثل محور الشر في القرن الأفريقي.
والحبشة من دون أمريكا وإسرائيل تمثل تجسيداً حقيقياً وتاريخاً كبيراً ومتجذراً في عداوة الإسلام والمسلمين، على الرغم من كونها المركز الثاني في الأرض الذي وصلت إليه دعوة الإسلام، عندما هاجر إليها عدد من الصحابة الهجرتين الأولى والثانية، في شهر رجب من العام الخامس للنبوة، حيث هبطوا في مدينة"مصوع"، وأحسن النجاشي استقبالهم وصدقهم، ثم آمن النجاشي بالإسلام واختلف مع بطارقته وقساوسته الذين أضمروا الحقد والحسد على المسلمين والإسلام، وأصبح هذا الحقد والبغضاء ميراث الكنيسة الحبشية التي يحرص القساوسة والرهبان الأحباش على نقله وتوريثه من جيل إلى آخر، ويتضخم عبر العصور ويزداد مع الزمان، وتشحنه الأحداث، فكلما حقق المسلمون انتصارًا وفتحوا بلداً كلما ازدادت عداوة الأحباش وتأججت نار أحقادهم ضد المسلمين.
ولما تقدم المسلمون في أرض الروم وانتصروا عليهم في مواطن كثيرة، تحركت الأحقاد الحبشية وتربصوا بالمسلمين الدوائر وانتهزوا فرصة ثورة ابن الأشعث بأرض العراق سنة 83 هجرية، وشجعت الكنيسة الحبشية بعض القراصنة الأحباش على الإغارة على جدة؛ فقاموا بالسطو عليها وتدمير السفن الراسية بالميناء، وقتلوا كل من استطاعوا قتله ولاذوا بالفرار تحت جنح الظلام، فرد الخليفة عبد الملك بن مروان بإرسال حملة استولت على جزر "دهلك" في البحر الأحمر وجعلتها قاعدة لها وأقامت فيها حامية لرد أي عدوان حبشي، فارتدع الأحباش ولم يقفوا في وجه التجارة الإسلامية في القرن الأفريقي.
ولم ينتهِ القرن الهجري الأول حتى بنى المسلمون مدينة "هرر"، والتي غدت مركزاً إسلامياً مستقلاً تماماً عن الحبشة، وظلت "هرر" مستقلة عن سلطان الأمهرية الحبشية حتى سنة 1314 هجرية ـ 1896 ميلادية، وقامت "هرر" بدور بارز في نشر الإسلام في القرن الإفريقي خاصة في إريتريا التي أصبحت إسلامية بالكامل في بداية الخلافة العباسية، وخضعت إريتريا للخلافة العباسية وعرفت باسم إقليم "باضع"، وهاجر إليها الكثير من المسلمين العرب وتأسست مملكة إسلامية صغيرة في شرق إقليم "شوا" عرفت باسم السلطنة المخزومية، وذلك سنة 283 هجرية؛ فانتشر الإسلام في أقاليم الحبشة.
ورد الأحباش على هذا المد الإسلامي الجارف في بلادهم بالاضطهاد والتنكيل والتقتيل لمسلمي الحبشة، ومن شدة الاضطهاد استنجد مسلمو الحبشة بالسلطان أحمد بن طولون في القرن الثالث الهجري، وطلب بطريرك مصر من بطريرك الحبشة الكف عن أذى المسلمين غير أن إمبراطور الحبشة أزداد في حربه على المسلمين وهدد بقطع مياه نهر النيل إن فكر ابن طولون في نجدة مسلمي الحبشة.
وفي القرن الرابع الهجري انقسمت مملكة الحبشة، والمعروفة تاريخياً باسم مملكة "أكسوم"، إلى قسمين: ـ ساحلي يحكمه المسلمون، داخلي يحكمه النصارى، وفي هذه المدة كان الإسلام ينتشر في الأجزاء الشرقية والجنوبية من الحبشة، وقامت العديد من الممالك الإسلامية هناك، ومن أهمها مملكة "إيفات" الإسلامية التي أخذت على عاتقها نشر الإسلام في ربوع الحبشة، ومملكة "عدل" و"هادية" و"عروسى" و"شارخة" و"بالى" و" داوارو"، وكلها ممالك إسلامية منتشرة في شرق وجنوب الحبشة، في حين انحصر نفوذ الأسرة الأمهرية الصليبية في الهضبة.
ومع مرور الزمان بدأ الضعف يدب في الممالك الإسلامية ووقع النزاع بينها، وجرى الخلاف بين أمراء مملكة "إيفات"، وهي أقوى الممالك وقتها؛ فاستغل الأحباش النصارى الفرصة وشنوا حرباً صليبية على هذه الممالك، وذلك في القرن التاسع الهجري، وعلا سقف طموحاتهم وحاولوا الهجوم على سلطنة المماليك في مصر ولكنهم فشلوا فشلاً ذريعاً.
وفي القرن العاشر ظهرت القوة البرتغالية البحرية ونجح البرتغاليون في الدوران حول إفريقيا وهددوا جنوب الجزيرة العربية وهاجموا الموانئ في الخليج العربي والبحر الأحمر وانتصروا على المماليك، واستولوا على مدينة زيلع الإسلامية وأحرقوها، فأرسلت ملكة الحبشة "إلينى" برسالة تهنئة وتناصر لملك البرتغال "عمانوئيل"، وهي رسالة تفيض بالحقد والكراهية على الإسلام والمسلمين، وفيها تعرض "إلينى" خدماتها على عمانوئيل، ولأهمية هذه الرسالة أذكرها بنصها [السلام على عمانوئيل سيد البحر وقاهر المسلمين القساة الكفرة، تحياتي إليكم ودعواتي لكم، لقد وصل إلى مسامعنا أن سلطان مصر جهز جيشًا ضخماً ليضرب قواتكم ويثأر من الهزائم التي ألحقها به قوادكم في الهند، ونحن على استعداد لمقاومة هجمات الكفرة بإرسال أكبر عدد من جنودنا إلى البحر الأحمر وإلى مكة أو جزيرة باب المندب، وإذا أردتم نسيرها إلى جدة أو الطور؛ وذلك لنقضي قضاءً تاماً على جرثومة الكفر، ولعله قد آن الوقت لتحقيق النبوءة القائلة بظهور ملك نصراني يستطيع في وقت قصير أن يبيد الأمم الإسلامية المتبربرة، ولما كانت ممتلكاتنا متوغلة في الداخل، وبعيدة عن البحر الذي ليس لنا فيه قوة أو سلطان فإن الاتفاق معكم ضروري؛ إذ أنكم أهل بأس شديد في الحروب البحرية].
وهذا التحالف الصليبي بين الأحباش والبرتغاليين، شجع الأحباش للقيام بهجوم واسع على الممالك الإسلامية، وبالفعل احتلت الحبشة مملكة "عدل" سنة 927 هجرية، وشعر العثمانيون وقتها بخطورة التهديدات الحبشية وخطورة الحلف الصليبي بين البرتغال والحبشة فأسس العثمانيون قاعدة عسكرية بحرية كبيرة في مدينة "زيلع" فقويت عزائم المسلمين واستعادوا مملكة "عدل"، واستعادت الممالك الإسلامية مجدها واتسعت مملكة "عدل" حتى شملت الصومال والدناقل وهرر، وأوشكت الهضبة على السقوط، فاستغاثت الكنيسة الحبشية ببابا روما وعرضت عليه التبعية والخضوع لسلطانه، ولكن مع الاحتفاظ بالمذهب الأرثوذكسي وذلك سنة 942 هجرية، فأرسل البابا جيشاً صليبياً بقيادة "كريستوفر دي جاما" ابن "فاسكو دي جاما" الملاح الصليبي الشهير، غير أن هذا الجيش الصليبي هُزم شر هزيمة أمام جيش سلطنة "عدل" وقتل قائده واستطاع الإمام أحمد بن إبراهيم سلطان "عدل" أن يفتح إقليم تجرة سنة 945 هجرية، وأوشكت مملكة الحبشة على السقوط فأرسلت البرتغال قوات ضخمة لنجدة الأحباش، وجرت معركة رهيبة بين الطرفين عند بحيرة "تانا" في قلب الحبشة سنة 952 هجرية، استشهد فيها أحمد بن إبراهيم وهُزم جيشه، فرد مسلمو هرر بالهجوم على الحبشة سنة 967 هجرية وقتلوا ملك الحبشة.
بعد ذلك وقع الخلاف في بلاد الأمهرة وكذلك الممالك الإسلامية، ودخل القرن الإفريقي في دوامة كبيرة من القتال الداخلي، ووقع الخلاف بين الأحباش الأرثوذكس والبرتغاليين الكاثوليك بسبب المذهب؛ مما جعل الإمبراطور الحبشي "فاسيلدس" يعقد معاهدة مع أمراء المسلمين؛ وبسبب ذلك أخذ الإسلام ينتشر بين الأحباش الأمهرة.
ومع دخول الدول الاستعمارية الكبرى للمنطقة رجحت كفة الأحباش على المسلمين، وتواطأت كل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا على اقتسام منطقة القرن الإفريقي فيما بينهم، مع التأكيد على استقلال الحبشة بوصفها مملكة نصرانية، مع ضم منطقة الأوجادين الصومالية والتي بها كثافة سكانية مسلمة إلى الحبشة، وبالفعل قامت إمبراطورية الحبشة تحت تاج الإمبراطور "منليك الثانى"، وكانت تضم الحبشة والإمارات الإسلامية كافة، وطُلب صراحة من "منليك الثاني" محاربة المسلمين لوقف انتشار الإسلام في المنطقة، وتحسباً لاستعادة المسلمين لقوتهم.
وقد عقدت الدول الاستعمارية الكبرى معاهدة فيما بينها لتقسيم مناطق النفوذ إذا ما انهارت الحبشة، وفكر "منليك الثاني" في صهر المسلمين في إمبراطوريته داخل المجتمع النصراني، فزوّج ابنته "أرجاس" من أمير منطقة "ويلو" محمد علي، فأنجبا ولي العهد "ليج أياسو" فلما هلك "منليك الثاني" سنة 1331 هجرية ـ 1913 ميلادية أصبح "ليج أياسو" إمبراطوراً للحبشة، فما لبث أن أظهر ميلاً للإسلام فهو مسلم في الأصل؛ فلبس "ليج" العمامة وأخذ يتردد على المساجد ونقل العاصمة إلى "هرر" وشيّد المساجد، واتخذ علماً جديداً للحبشة في وسطه هلال بدلاً من العلم القديم الذي فيه صورة أسد يحمل صليبًا يريد أن يضرب به, واتصل مع محمد بن عبد الله حسن الزعيم المسلم الذي ثار في الصومال ضد الاستعمار الصليبي؛ فهاجت الكنيسة الحبشية وأصدرت قراراً بحرمان "ليج أياسو" من التاج الحبشي، وكلفت الكنيسة "رأس تفارى" بمحاربته فقبض عليه وذبحه سنة 1339 هجرية 1921 ميلادية، وأعطت الكنيسة الملك إلى "زاويتو" ابنة "منليك الثاني"، وعيّنت "رأس تفارى" وصياً عليها، فما لبث رأس تفارى حتى خلع "زاويتو" وأعلن نفسه إمبراطوراً للحبشة، وتلقب باسم "هيلا سيلاسي" وأعاد علم الحبشة القديم وهو على شكل أسد يمسك صليباً يريد أن يضرب به، وتعتبر فترة حكم "هيلا سيلاسي" من أحلك فترات المسلمين في الحبشة وأشدها مأساوية ودموية؛ إذ كان هذا الرجل من كبار أعداء الإسلام في العصر الحديث، حيث كان مشحوناً بكمية لا تتصور من الحقد والكراهية للإسلام والمسلمين، لا يرى له هدفًا في الحياة إلا محاربة الإسلام والمسلمين، هذا بجانب أنه كان دكتاتورياً لأقصى درجة، وعمل على تأكيد وتثبيت وضع إريتريا والأوجادين ضمن أملاك الحبشة، وأنزل بالمسلمين هناك الكثير من المذابح المروعة، وحرّم التعامل بالعربية بين أوساط المسلمين وأغلق المدارس والكتاتيب، وكان الأحباش في عهده يعدون المسلم غير حبشي ومن الغرباء الذين يجب إجبارهم على التنصر أو طردهم أو قتلهم، وكان "هيلا سيلاسي" يفاخر بجرائمه ضد المسلمين في المحافل الدولية، ومع ذلك كان هذا الطاغية يلاقي احترامًا زائداً في الدول الإسلامية عموماً والعربية خصوصاً، وكان وثيق الصلة مع الرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر، ولا عجب فالطيور على أشكالها تقع، وقد أدانت منظمة المؤتمر الإسلامي في اجتماعها بمقدشيو سنة 1384 هجرية ـ 1964 ميلادية الجرائم الحبشية ضد المسلمين في إريتريا والأوجادين، خاصة في ظل الطموحات الحبشية نحو احتلال الصومال بالكامل، وإنهاء الوجود الإسلامي في منطقة القرن الإفريقي بالكامل. ولكن ذهبت هذه التنديدات أدراج الرياح إذ لم تقترن بعمل قوي يردع هؤلاء الصليبيين المتعصبين.
ومن هذه الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، مذبحة مقاطعة القراقي الإسلامية سنة 1361 هجرية ـ 1942 ميلادية، ومذبحة قرية "يجو" سنة 1367 هجرية ـ 1947 ميلادية، والمجزرة المهولة لإقليم "هرر" سنة 1367 هجرية ـ 1948 ميلادية، عندما اقتحم الإقليم الجيش الحبشي وأحرق الجوامع والمزارع والمدارس واعتقل الآلاف وتعرضوا لأبشع أنواع التعذيب، التي لا تخطر على بال إبليس نفسه، هذا والعالم الإسلامي والعربي لا يحرك ساكناً ويكتفي بالتنديدات والبيانات الجوفاء.
ومع الانقلاب الشيوعي الذي أطاح بالطاغية هيلا سيلاسي سنة 1394 هجرية ـ 1974 ميلادية، أخذت الحبشة في الاهتمام بالداخل وحاولت تهدئة وتيرة الصراع ضد الصومال والسودان خاصة؛ في ظل تخلي الأمريكان عنهم قليلاً، وزادت الأمور اضطراباً بسبب الصراع على الحكم هناك والمجاعة العظمى التي ضربت البلاد، وفقدت الحبشة دورها الحيوي في حرب الإسلام والمسلمين وأخذت المراهنات الأمريكية واليهودية تتجه إلى بعض فصائل المقاومة الإريترية، وهو فصيل الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا بزعامة أساياس أفورقي، وهو صليبي لا يقل عن الأحباش في عدوانه للإسلام والمسلمين، وكذلك إلى إحدى فصائل المعارضة الحبشية، وهو الجبهة الديمقراطية الثورية لتحرير شعوب أثيوبيا "شعب تجره" بزعامة "ملس زيناوي"، وتولى الوسيط الأمريكي اليهودي "هيرمان كوهين" مساعدة وزير الخارجية الأمريكية للشئون الإفريقية في التنسيق بين هذه الفصائل؛ للإطاحة بحكم "منجستو" الشيوعي، وإعطاء إريتريا استقلالها تحت حكم النصارى، وبالفعل نجح المخطَط الأمريكي وأصبح "زيناوي" رئيساً للحبشة و"أفورقى" رئيساً لإريتريا، ومع الإبقاء على الأوجادين الصومالية ضمن أملاك الحبشة؛ وبذلك ضمنت أمريكا والمعسكر الغربي بقاء المسلمين تحت السيطرة والهيمنة الحبشية.
ولكن بقيت الأطماع الحبشية الصليبية قائمة نحو بلاد الصومال، والأحلام الكنيسية للأحباش بإنهاء الوجود الإسلامي من القرن الإفريقي متقدة؛ فتبنت الحبشة كل معارضي النظام الصومالي أيام الطاغية "زياد بري"، ودعمتهم بالسلاح والمال الوفير، والذي يتدفق من أمريكا واليهود لزعزعة الحكم الشيوعي في الصومال وفتح المجال نحو التدخلات الأجنبية في البلاد، وبالفعل سقط نظام "بري" في سنة 1411 هجرية ـ 1991 ميلادية واستولت المعارضة على الحكم؛ فعملت أمريكا وذراعها الإفريقي ـ الحبشة ـ على بث الفرقة بين أجنحة المعارضة بإثارة النعرات القبلية بين فصائل المعارضة، خاصة بين قبائل الهوية وقبائل المجرتين وقبائل الإسحاق، والهدف هو تمزيق وحدة القطر في الصومال واقتتال المسلمين فيما بينهم، وجاءت القوات الأجنبية بحجة حفظ النظام والبلد، وفي حقيقة الأمر بسبب تعميق حدة الصراع، ووقف الرئيس الأمريكي "بل كلينتون" في الكونجرس الأمريكي يقول وقد استحضر ثياب الكهنوت الباباوي من عباب التاريخ [قررت باسم الرب إرسال خمسة وعشرين ألف جندي إلى الصومال]، ويزداد الصراع اشتعالاً، ويجد الأمريكان جنودهم يسحلون في شوارع مقدشيو كالجيف المنتنة؛ فأسرعوا بالانسحاب تاركين جنود الاتحاد الإفريقي وغيرهم من القوات المتعددة الجنسيات يذوقون ويلات الصراع بالصومال.
واشتد الصراع بين الفصائل الصومالية، واستقلت قبائل الإسحاق بشمال البلاد وأعلنوا قيام جمهورية أرض الصومال برئاسة، عبد الرحمن أحمد على تور، ولم يعترف بهذه الدويلة سوى إسرائيل, ثم انقسمت قبائل الهوية على نفسها وتحاربت بطون "الأبغال" بزعامة على مهدي محمد مع بطون "الهبرجدر" بزعامة "محمد فارح عيديد"، والأحباش من وراء الستار ينفخون في أور هذا الصراع المقيت، ويدعمون بعض أطراف الصراع على حساب الأخرى، وتشرد الصوماليون نتيجة الصراع شذر مذر، وأكملت المجاعة المأساة الصومالية، فمن نجا من القتل أهلكته المجاعة، وذهبت كل محاولات الصلح أدراج الرياح بسبب حرص الأمريكان والأحباش على ذلك، وجاءت المنظمات الدولية للإغاثة تحمل في يد المساعدات والمؤن الغذائية للمنكوبين وفي اليد الأخرى صليباً وإنجيلاً لتنصير الشعب الصومالي، الذي يفخر على شعوب إفريقيا كلها بأن نسبة الإسلام فيه 100%، فلا يوجد صومالي واحد على غير الملة المحمدية، فلاقت هذه المنظمات فشلاً تاماً فعادت أدراجها حيث لم تحقق هدفها الأهم وهو تنصير المسلمين.
وفي هذه الفترة ظهر لاعب جديد على الساحة في منطقة القرن الإفريقي وهو إريتريا التي وجدت دعماً قوياً ومباشراً من الصهاينة، الذين أدركوا أهمية الموقع الجغرافي الخطير لإريتريا حيث تسيطر على مداخل البحر الأحمر الجنوبية، والقيادة الإريترية صليبية الهوى والهوية، وبالتالي أخذت الحبشة تفقد دورها تدريجياً كشرطي للمنطقة، فدخلت في حرب حدودية صغيرة مع إريتريا لإثبات القوة والوجود والتأثير، خاصة في ظل بقاء الأوضاع متردية داخل الصومال.
وعلى غرار التجربة الطالبانية وفي أوضاع مطابقة للملحمة الأفغانية ظهرت الحركة المباركة للمحاكم الإسلامية في فترة وجيزة من الزمان. وأصبحت المحاكم الإسلامية القوة الأبرز على الساحة الصومالية؛ إذ وجد الصوماليون فيها بغيتهم، حيث الاستقرار والأمان والمحبة والائتلاف، حيث لا ولاء لقبيلة أو عشيرة، فالولاء لله ولرسوله، والرابطة بين الجميع هي رابطة "لا إله إلا الله"، وبالفعل حققت المحاكم الإسلامية بسواعد شبابها الطاهر انتصارات رائعة على دعاة القبلية والعصبية وعلى عملاء أمريكا والحبشة وعلى المتغلبين والمستقوين بعشيرة أو سلاح، وعاد وجه الصومال يبتسم، فحاول الأمريكان تحريك عملائهم في الداخل الصومالي، واجتمع أمراء الحرب الذين طالما أثروا على حساب الشعب الصومالي ومصوا دمه، اجتمعوا رغم خلافاتهم السابقة وشكلوا تحالفاً لمحاربة المحاكم الإسلامية واختاروا له اسماً أمريكياً براقاً هو تحالف السلم ومكافحة الإرهاب، وأمدتهم أمريكا بالسلاح والتغطية الإعلامية لتشويه سمعة المحاكم الإسلامية، ولكن بفضل الله عز وجل وحده حققت المحاكم نصراً عزيزاً، وطردت أمراء الحرب من البلاد، وسيطرت على أجزاء واسعة من الصومال؛ فلم يعجب ذلك الحكومة الصومالية الواهنة والتي يسيطر على عقول أفرادها مبدأ القبيلة والعشيرة؛ فوقفت أمام المحاكم وأعلنت الحرب عليها ولوّحت بورقة الحبشة والاستقواء بالخارج، فلم يثنِ ذلك عزم مجاهدي المحاكم وأنجادها، وبالفعل دخلت قوات المحاكم مقديشيو ونشرت في ربوع المدينة الملتهبة الأمان بعد أن كانت إحدى أخطر بقاع العالم، وواصلت المحاكم سعيها نحو الغرب لاستعادة كامل التراب الصومالي، وعندها كان لا بد للأسد الحبشي الذي يحمل الصليب في يده أن يتحرك مرة أخرى ويشن حربًا صليبية مقدسة جديدة، هذه المرة بالوكالة عن كل أعداء الإسلام من أمريكان ويهود وعلمانيين وقبليين وطامعين وكارهين للدين، ولكن الحقيقة التي لا يعلمها كل هؤلاء أن كلمة الله عز وجل قد سبقت لعباده المؤمنين أنهم هم المنصورون وأن جند الله عز وجل هم الغالبون، ولو كره الكافرون والمجرمون، واسألوا التاريخ.