ـ بداية قبل الحديث عن تطور الأحداث الجارية في الصومال هذه الأيام لابد لنا من معرفة مقدمة أساسية عند تناول الشأن الصومالي وأوضاعه الداخلية والإقليمية، وبغياب هذه المقدمة يصبح تحليل القضية الصومالية منقوصا مبتورا عصيا على الفهم بعيدا عن توصيف الداء والدواء لهذا البلد المنكوب أيما نكبة .
ـ هذه المقدمة تعتمد في الأساس على قراءة تاريخ الصومال وتتبع فصوله ليس من الأمس القريب فحسب ولكن منذ أو وطئت الأقدام الطاهرة المهاجرة للصحابة رضوان الله عليهم ميناء مصوع في العام الخامس من النبوة وحتى وقتنا الحالي .
ـ فالسمة البارزة للتاريخ الصومالي شعبا وحكومات ودول وممالك هي سمة الصراع الديني البحت الجليّ، بين مسلمي الصومال ونصارى الحبشة، فمنذ إسلام النجاشي زعيم الحبشة رضي الله عنه، والكنيسة الحبشية ترى في الإسلام ورسوله وأتباعه خصما تاريخيا لدودا لا تعدل بعداوته أي طرف آخر على وجه الأرض، ومهما ارتدت فصول الصراع بين مسلمي الصومال ونصارى الحبشة وجوها متغايرة وأقنعة مختلفة للصراع، إلا إنه كان ومازال وسيظل صراعا دينيا قحا، لا تعكره بواعث سياسية أو اقتصادية أو عرقية أو قبلية أو أي شيء آخر، ومن يدعي غير ذلك يعوزه الدليل، وتكذبه الأيام والليالي، وتشهد عليه الأحداث والدواهي .
ــ أضف إلى تلك الخلفية الدينية الكاملة للصراع وقوع بلاد الصومال في واحدة من أكثر البقاع السحرية في العالم، في القرن الإفريقي حيث واسطة عقد القارة، وهمزة الوصل بين الحضارة العربية والإسلامية، والحضارة الإفريقية، وتشرف الصومال على مضيق باب المندب الاستراتيجي الذي يعتبر أهم المضايق المائية على مستوى العالم، وهذا المضيق مكثت البرتغال تقاتل اليمن والصومال وتنزانيا طيلة القرن العاشر الهجري والسادس عشر الميلادي للسيطرة عليه والتحكم في ممرات التجارة العالمية من خلاله، فالصومال يشرف على العالمين العربي والإفريقي على حد السواء ويعتبر مفتاح استراتيجي شديد الأهمية للسيطرة على حركة الملاحة العالمية .
ــ هذا الخليط الفريد من مقومات الشحن الديني والحضاري والسياسي والاستراتيجي جعل الصومال واحدة من أكثر بقاع العالم اضطرابا والتهابا، وعلى أراضيه جرت عشرات الفصول من الصراع بين القوى الاستعمارية القديمة والمعاصرة، وقسمت البلاد عدة مرات بين الانجليز والفرنسيين والطليان والأحباش ولم تعرف بلاد الصومال معنى الاستقرار أبدا إلا قليلا، وكان البديل فيها عن الاحتلال الأوروبي والحبشي حكما استبداديا شيوعيا عاتيا شديد الكراهية للإسلام والعروبة .
ــ تاريخ الصومال الذي هو جزء لا يتجزأ من واقعه المرير يحمل في طياته الكثير من عوامل التأثير الحاضرة والفاعلة على سير الأحداث اليوم في الصومال، ففي الصومال كل شي، وأي شيء مسيس و يتقاطع مع أجندات داخلية وخارجية، في الصومال تتشابك الأهداف وتتعارض الخطط وتتضارب الرايات والآراء حتى أصبحت العبثية هي السمة الأساسية لهذا البلد المنكوب أصلا باقتتال أبنائه قبل كيد أعدائه، فالفرقاء الصوماليون قد أصبحوا يختلفون ويتنابزون في كل شيء، فلغة التخوين والتكفير والطعن والتسفيه والشك هي اللغة السائدة في التعامل مع أي مستجد في الشأن الصومالي، وآخرها المجاعة التي ضربت أجزاء واسعة من القرن الإفريقي .
ــ المشكلة الحقيقية في الصومال الآن أن المتصدي لتحليل الوضع الصومالي يجد نفسه مطالبا بالانحياز لا محالة بين طرفي الصراع، وذلك أما بتبني وجهة النظر الحكومية التي يدعمها الغرب وأثيوبيا، أو بتبني وجهة نظر المعارضة الإسلامية ممثلة في حركة شباب المجاهدين، فالحيادية وقت النوازل أمر ليس باليسير، في ظل أجواء التخوين والعمالة والتكفير الخانقة التي تخيم على المشهد الصومالي منذ سنين طويلة، فالطرف الحكومي المدعوم من العالم الخارجي بمؤسساته وهيئاته الإنسانية والخيرية والاجتماعية والتي لا تخرج من قبضة التأثير والتوجيه السياسي، وثبت بالكثير من الأدلة أنها مجرد أدوات خاضعة لرغبات صناع القرار في واشنطن وتل أبيب ولندن وباريس وروما وغيرها، له وجهة نظر خاصة تري في الأوضاع داخل الصومال كارثة إنسانية غير مسبوقة وتراها الأسوأ والأفظع في أوائل الألفية الجديد، وأن العالم لا يمكنه أن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الكارثة الإنسانية وأنه لابد من التدخل الإنساني العاجل لنجدة المنكوبين ــ ولا حظ أنها نفس لغة الخطاب التي استخدمت قبل التدخل الأمريكي في الصومال سنة 1992 ـ وقد دعمت حكومة شريف وجهة النظر هذه بعشرات التقارير الموثقة من جهات داخلية وخارجية، فقد أعلنت وحدة الأمن الغذائي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة في الصومال أن سوء التغذية الحاد ونسب الوفيات قد تجاوزت حدود المجاعة في منطقتي «بالكاد» و«كادال» في «شبيلي»، وبين السكان اللاجئين في مقديشو ووادي افجوي. ويأوي أفجوي، الواقع على بعد 25 كيلومتراً غرب العاصمة مقديشو، ما يقدر بنحو 400,000 نازحٍ منذ عام 2007، فيما أعلن مسئولون أمريكيون أن زهاء 29 ألف طفل توفوا نتيجة المجاعة أي نحو 4 % من الأطفال في البلاد، وأن 3,2 ملايين شخص يحتاجون إلى مساعدة إنسانية فورية، ووصفت شبكة "الإنذار المبكر من المجاعة"، حالة الجفاف هذه بأنها أسوأ أزمة إنسانية في العالم اليوم، وأسوأ أزمة أمن غذائي في إفريقيا منذ المجاعة التي ضربت الصومال عامي 1991 و1992.
ـ و في المقابل يجد المحلل والمتابع للشأن الصومالي أمام الرؤية الثانية للحدث، وهي رؤية حركة الشباب المجاهدين التي تحارب الحكومة الصومالية وتتهمها بالعمالة لأمريكا وأثيوبيا، وهي الوجهة التي تري أن ثمة مبالغة متعمدة من الحكومة العميلة وأمريكا وأثيوبيا في تصوير الأوضاع داخل الصومال، وأن الأمر لم يصل لحد المجاعة التي تستوجب تدخلا خارجيا يعلم جميع الصوماليين أهدافه وعواقبه، وتسخر الحركة من التقارير الصحفية التي تروج لوجود مجاعة في الصومال، وترى أن ذلك كله يدخل في إطار نظرية المؤامرة و المخطط الدولي لإعادة احتلال الصومال ـ كأنه ليس محتلا بالفعل ـ كما نفت الحركة أيضا قيامها بمنع إيصال المساعدات إلى الصوماليين كما يدعي الغرب، حيث ترى أن الهدف من هذا الكلام إعداد قوة جديدة من الدول الإفريقية لاحتلال الصومال، مشيرة إلى أن أكثر من مائة هيئة وجمعية محلية وإقليمية ودولية منتشرة في المناطق الصومالية، تمارس نشاطاتها الإنسانية دون أي مشكلة، وقنوات الاتصال مفتوحة بينها وبين الحركة، وأن الحركة لا تمنع سوى المنظمات التنصيرية المشبوهة والتي تحمل غذاء ومساعدات بيد والإنجيل في اليد الأخرى .
ــ ووسط هذا التضارب والتعارض في وجهات النظر يقف المرء مشدوها أمام مشاهد الموت والجوع التي تضرب سويداء أفئدة الصائمين، وهم يشاهدون بني دينهم هلكى من الجوع والتعب والمرض، فيكاد يصدق وجهة النظر الحكومية ونداءات المؤسسات الدولية، ويهرع بالمساعدات الضخمة لنجدتهم، ولكنه يتعجب في نفس الوقت من تدفق القوات الإفريقية (أميسوم) على هذا البلد المنكوب الجائع لتمثل عبئا إضافيا على بلد لا يستطيع ربع شعبه على التنعم بأكلة واحدة في أيام رمضان الطويلة، ولتشعل أجواء الحرب مرة أخرى، ثم إنه يتعجب مرة أخرى من حرص أمريكا وأوروبا على نجدة الصوماليين رغم أنهم في الأصل سبب نكبة هذا البلد العريق، وأحد أهم أسباب استمرار اضطرابه واقتتال أبنائه، ثم يتساءل أين كانت المنظمات الدولية منذ أربع سنوات وبوادر المجاعة تلوح في الأفق، ولماذا سمحت أوروبا مثلا لمزارعيها ومنتجي الألبان فيها العام الماضي بسكب 40 مليون لتر لبن طازج في البحر من أجل الحفاظ على السعر العالمي بدلا من أن توجهها إلى البلاد المنكوبة وعلى رأسها الصومال !، ثم يكاد يصعق ويتحول شكه إلى يقين عندما يري حاملة الطائرات الأمريكية " باتان " العملاقة ترافقها سفينة الإنزال البرمائية "وايدباي آيلاند" وسفينة النقل البرمائية "ميزافيردي" يمخرون عباب البحر الأحمر في طريقهم إلى المياه الصومالية وخليج عدن بدعوى حماية السفن التجارية ضد القرصنة في القرن الإفريقي، على الرغم من كون أزمة القراصنة موجودة منذ عدة سنوات،هذه الخطوات ستدفعه للتساؤل هل حان وقت إعادة احتلال الصومال ؟ وهل أمريكا تخطط اليوم من أجل تطويق العالم الإسلامي والجزيرة العربية من الخلف تحسبا لانفلات زمام الأمور في اليمن ؟ وهل أمريكا تريد تحجيم ربيع الثورات العربية ؟ أو وقف توجه مصر نحو السودان والخلف الإفريقي ؟ وهل أمريكا تضع اللمسات الأخيرة لتقسيم ليبيا واليمن ؟ وأسئلة مشروعة كثيرة من حق كل متابع للمشهد الصومالي أن يفكر فيها ويتساءل عنها .
ــ وأين ما كان الصواب، مع الحكومة أم مع المعارضة ، فإن الشعب الصومالي فكل الأمرين هو الضحية، فهو الذي يتساقط أبناؤه كل يوم أما بالرصاص أو بالجوع، ومشكلة الصومال الأساسية هي مشكلة سياسية بجذور دينية وقبلية، وإنما تجلت توابعها هذه المرة في مجاعة اختلف في تقدير جسامتها، وإنما خطورة الأوضاع الصومالية تكمن في أن لا الصوماليين قادرين على حلها لكثرة خلافاتهم الشخصية والقبلية ــ قرابة العشرين محاولة عامة للصلح باءت بالفشل في العقدين الأخيرين ــ، ولا الخارجيين يريدون حلها، بل هم سبب أصيل في نكبتها واستمرار معاناتها، فهل قدر لهذا البلد المسلم العريق أن يظل رهين اضطرابات وأزمات لا تنتهي يدفع شعبها ثمنها من دمه ونسله ووجوده ؟! .