يتم تداول الاسم (فلسطين) بين المؤرخين والعلماء والمؤلفين, على أنه اسم يعود بتاريخه القديم, إلى أحد شعوب البحر الذين غزوا المنطقة, في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد.
يقول أحمد سوسة: «وكان أخر من هاجر إلى أرض فلسطين «الفلستيون», وهم من الأٌقوام الإيجية» أهل السواحل» كانوا قد احتلوا بعض السواحل السورية العليا في أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد.» (أحمد سوسة, العرب واليهود في التاريخ , ص 101).
ويقول سامي الأحمد: «وكلمة فلسطين مشتقه من الاسم بيليستي Peleshti (في المصادر الآشورية) وهي إحدى قبائل أرض البحر الذين تحركوا من سواحل اليونان وكريت وجزر بحر إيجه... واستقرت في جماعات منهم بعد ذلك في بعض المناطق من فلسطين.» (سامي الأحمد, تاريخ فلسطين القديم, ص 43).
ويقول جيمس بريستيد: «ولكن شعباً جديداً من شعوب البحر المتوسط يعرف بالفلسطينيين كان قد هاجر من جزيرة كريت إلى الساحل البحري عند الزاوية الجنوبية الغربية من أرض فلسطين» .(حيمس بريستيد, العصور القديمة 178).
وهكذا يقول غيرهم .
ولكن هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: ما هو اسم هذه المنطقة قبل أن تغزوها شعوب قبائل البحر؟ إنهم يطلقون عليها اسم (أرض كنعان) حيناً, وكانت تشمل كل مناطق جنوب سورية.
هذا ما يقرأ في التاريخ لأول وهلة. والحقيقة أن هذا الادعاء بعيد عن الصحة, من جهة الاسم الذي أطلق على الساحل الجنوبي, لساحل البحر الأبيض المتوسط الشرقي.
صحيح أن اسم (أرض كنعان) قد أطلق على كل المنطقة, ولكن بالتأكيد فإن لكل إقليم من الأقاليم التي يشملها هذا الاسم, كان له اسم خاص به.
فلسطين وشعوب البحر:
يجمع الكتاب والمؤرخون المهتمون بكتابة العهد القديم, أن أغلبه قد كتب وبعد العودة من السبي البابلي ( القرن السادس والخامس قبل الميلاد), ولا شك في أن كتبة التوراة, قد سمعوا بما كان يتداول من حكايات وقصص تاريخية قديمة, وصلت إليهم عن طريق النقل. وأن أغلب هذه القصص قد وقع عليها التحريف والتزوير, وقد زاد هؤلاء الكتبة على ذلك, فجاء الخطاب التوراتي مليئاً بالأساطير والأسماء التي لم تتحقق تاريخياً.
وبالتأكيد, فإن قصة الفلسطينيين, أو ما يطلق عليهم (الفيليست) وهم أحد شعوب البحر ـ كما يدعون ـ كانت واحدة من القصص التي نسج مؤلفوا التوراة عليها اسم (فلسطين).
كتب جيمس هنري بريستد يصف هجوم شعوب البحر على سوريا في عهد رمسيس الثالث (1198 ـ 1167ق.م) و قيل (1193 ـ 162 ق.م) في السنة الخامسة من حكمه, كتب يقول:
« ومما زاد الطين بله أن سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط أخذوا يقدون بكثرة على مصر, وأخصهم قومان فظيعان يعرفان بالثكاليين (Thekel) والبلست المعروفين عند اليهود بالفلسطينيين ـ اشتهروا بإحداث القلق والاضطراب. أما أهالي بلست وهم الفلسطينيون فأصلهم من جزيرة كريت, وأما الثكاليون فالغالب أنهم يونانيو الأصل من جزيرة صقيلية, وقد اتحذ الثكاليون وأهالي بليست مع الدوناويين Denyen والسردينيين والوشاشيين والشكالاشيين وجمعوا كلمتهم على الهجوم على مصر,.... وتفصيل ذلك أن هؤلاء الأجانب (أهالي البحر الأبيض المتوسط) أخذوا يفدون مع أسرهم على سوريا في عجلات ضخمة, كل واحدة لها عجلتان تجرها ثيران, وفي سفن عديدة تطوف الشاطئ السوري, ولحسن تسلح هؤلاء الأقوام عجز أهالي مدن آسيا عن مقاومتهم ولذلك سهل عليهم الاستيلاء على جميع بلاد الحثيين شمالي سوريا حتى كاركاميش Charchemish على الفرات. بعد ذلك زحفوا مخترقين أرواد Arvad على ساحل فينيقا ثم ساروا جنوباً حتى مملكة آمون متبعين طريق نهر الأورونط ناهبين ومتلفين كل ما وقعت عليه أيديهم.
وزحف أسطول سكان البحر الأبيض المتوسط على جزيرة قبرص المعروفة قديماً باسم ألاسا Alasa فلم يجد فيها مقاومة تذكر فاحتلها. بعد ذلك, أقبل هؤلاء الأقوام والنار تتأجج أمامهم مولين وجوههم نحو مصر. وكانوا وقتئذ من أهالي بليست (كريت) وثيكل (صقلية) وشكلش ودان 0 ووشواش ,.........
أما رمسيس الثالث فقد أخذ يتجهز ويستعد بكل قوته لصد هجوم أعدائه فحصن حدوده السورية وجمع أسطولاً ضخماً بسرعة وزعه على الموانئ الشمالية, وراقب من شرفة قصره تجهيزات مشاته. ولما أكمل استعداده قاد بنفسه قواته إلى سورية ليصد زحف أعدائه, وللآن لم تهتد إلى مكان المعركة التي نشبت بين الطرفين بالضبط... ولم يخبرنا رمسيس الثالث عن سير المعركة إلا خبراً محملاً فقال أنه انتصر على أعدائه وهزمهم...
بعد ذلك سحبت السفن مقلوبة إلى الشاطئ وكانت القتلى كومات مكدسة على ظهر السفن من مقدمها إلى مؤخرها, وألقيت جميع أمتعة الأعداء في البحر تذكاراً لمصر, ومن حاول من الأعداء الهرب عائما نحو الشاطئ تأسره القوات المصرية هناك.« (ج, بريستد, تاريخ مصر منذ أقدم العصور, ص 222 -224).
وإذا كان (برستيد) يطلق على أحد شعوب البحر اسم (بييليست (Peleset فإن بعض المؤرخين من يقول غير ذلك. فقد قيل» « لقد ذكر رمسيس الثالث فرعون مصر حوالي (1190 ق.م.) شعب البرست Prst ضمن الشعوب التي تآمرت في جزائرها واتجهت شرقاً وجنوباً عبر سوريا إلى مصر.» «( خالد دسوقي, أصل الفلسطينيين, ص5).
كما يقول زياد منى, عندما يتكلم عن رمسيس الثاني (1290ـ 1224 ق.م.): «........ الذي حقق النصر على ستة أقوام هي فرست (ف ـ ر ـ ست) .... « (زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص49).
ويعلق على ذلك بقوله:
« وبعد أن لاحظ العلماء التشابه اللفظي بين الاسمين(فرست) وفلشت/ فلست) الوارد في العهد القديم كاسم قوم ولإقليم جارين لبني إسرائيل , رأى أهل الاختصاص أن المقصود واحد, وبضرورة نطق الاسم الأول بصيغة (فشت) . وفي الوقت الذي لا يجوز علمياً نبذ هذه الإمكانية كاحتمال, إلا أنه من غير الممكن قبولها على أنها حقيقة غير قابلة للنقاش.(زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص 47).
ونجد أن نجيب إبراهيم يسمي هؤلاء القادمين مع شعوب البحر باسم (بورستا Pursta أو بوليستا Pulusta) ويرى أنه «ليس من المستبعد أن يكون أصحابها من نفس الجنس الذي منح فلسطين اسمها. « ( نجيب إبراهيم ميخائيل, مصر والشرق الأدنى, ص3/95) .
ويقول طومسون «.... ورغم ذلك, فإن القول بأن «الفلسطينيين» يمثلون شعبا غريباً متطفلاً على فلسطين, يجب إنكاره.« (توماس طومسون, التاريخ القديم لشعب إسرائيل, ص100).
ويقول أيضاً: «( افتراض جي. إي. رايت بأن شعوب البحر المهاجرين قد وطدوا أنفسهم على الساحل الفلسطيني كمستعمرات مرتزقة, حيث أصبحوا وكلاءهم ثم خلفاء للسلطة المصرية في فلسطين, لابد من مراجعته بصورة شاملة لأن تصورنا للدور المصري في هذه المنطقة خلال القرن الثاني عشر صار أوضح.« طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ص 188).
فهو هنا, يستبعد أن تكون لشعوب البحر إمكانية تجعلهم يفرضون سيطرتهم على هذا الجزء من الساحل, أو أن يكون لهم من القوة والحضارة والتأثير, بحيث يطلق اسمهم على المنطقة التي يزعمون أنهم استوطنوها.
وإن جميع الحفريات التي أجريت في فلسطين قديماً وحديثاً, لم تدل على آثار مادية خلفها أولئك الغزاة (الفلستيون), بحيث تعطينا ولو شيئاً بسيطاً عن شخصيتهم, وعادتهم, وتقاليدهم , وحضارتهم.
وهكذا فإن «افتقارنا إلى الوثائق التاريخية التفصيلية حول هذه المسألة يجعلها من الفرضيات المطروحة عموماً نوعاً من التخمين فقط, ذلك أن أصل الفلسطينيين كمجموعة إثنية غير معروف تماماًُ بالنسبة لنا. (حمدان طه, تاريخ الفلسطينيين وحضارتهم في العصر الحديدي الأول, ص28).
المواطن الأصلي الفلسطيني:
إذا كانت التوراة تشير إلى أن المواطن الأصلي للفلسطينيين هو كفتور «يقول الرب, ألم أصعد إسرائيل من أرض مصر والفلسطينيين من كفتور.» ( سفر عاموس 9: 7, وهناك إجماع على أن (كفتور) هي جزيرة كريت.
ولكن مراجعة النصوص التوراتية تظهر لنا أن (الفلسطينيين و الكفتوريين والكريتيين ) جماعات مختلفة.
جاء في سفر التكوين: « ..... وكسلوجيم الذين خرج منهم فلشتيم وكفتوريم» التكوين 10:14
وفي سفر إرميا: «لأن الرب يهلك الفلسطينيين بقية جزيرة كفتور .» إرميا 47:4
وفي سفر حزقيال:«ها أنذا أمد يدي على الفلسطينيين وأستأصل الكريتيين وأهلك بقية ساحل البحر.» حزقيال 25: 16
وفي سفر صفنيا: «ويل لسكان البحر أمة الكريتيين.» صفينا 2: 5
وعليه فإننا نستنتج من النصوص التوراتية السابقة, مايلي:
1ـ أن الفلشتيم (الفلسطينيين), والكفتوريم جاءوا من منطقة كسلوجيم والتي لا يعرف أحد أين تقع.
2ـ إذا كان بنوا إسرائيل قد جاءوا من مصر, فإن الفلسطينيين قد جاءوا من كفتور, (عاموس 9: 7) أي أن الإسرائيليين خرجوا من مصر, وهي ليست موطنهم الأصلي, وكذلك الفلسطينيين خرجوا من كفتور, وقد لا تكون موطنهم الأصلي أيضاً.
3ـ تميز التوراة بين عدد من الشعوب (شعوب البحر) وهي : الفلسطينيين, والكفتوريين, والكريتيين.
4ـ في سفر حزقيال (25: 16) ذكر الفلسطينيون والكريتيون وحدهم, كأمم من شعوب البحر, وليسا كمترادفين.
5ـ لم يعثر حتى الآن لا في فلسطين, ولا في غيرها, ما يدل على وجود الاسم (فلشت /فلستيم) المذكور في التوراة, باستثناء ما وجد على جدران (هابو) الفرعونية والتي ذكر عليها اسم (برست), والاسمان مختلفان.
6ـ إن القارئ للتوراة يرى أنها استخدمت أكثر من اسم للدلالة على (الفلسطينيين), ومن هذه الأسماء (فلست, وهفلستي, وهفلستيم, وفلستيم, وفلستييم) (انظر زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص 53).
ولكن المترجمين العرب للتوراة استخدموا اسماً واحداً فقط هو (الفلسطينيون), ولاشك في أن استخدام التوراة لأكثر من اسم يعقد الموضوع, ويدل على أن التوراة قد كتبت على أيدي عدد من الأفراد , و أكثر من بيئة.
ويذهب (بونفانت) إلى «أن الفلسطينيين شعب «هندو ـ أوروبي» أتى من كريت, ولكنه لم ينشأ بها أصلاً.» ( محمد مهران, بنو إسرائيل, 2/538).
أما (وينرايت Wainwright ) فيرى «أن الفلسطينيين من كفتور, ولكنه يرى أن كفتور ليست كريت». (محمد مهران , بنو إسرائيل و ص 2/ 538).
ويرى حمدان طه, أن هناك فرضيتان متعارضتان عن أصل الفلستين, وهما:
أولا: فرضية الأصل الإيجي وهي الفرضية التقليدية وتعود بالفلستين إلى جزر بحر إيجه وتضم الغالبية الساحقة من الدارسين التوراتيين.
ثانيا: فرضية الأصل الأناضولي وتضعهم في المنطقة الجنوبية الغربية من آسيا الصغرى وشمال سوريا. (حمدان طه, تاريخ الفلستيين, ص 29).
ولاشك أن غياب الوثائق التاريخية التي تؤيد هاتان الفرضيتان, يجعلهما فرضيتان مطروحتان للبحث والنقاش ليس إلا.
ولكن الشيء الملفت للنظر, هو اللباس الذي كان يلبسه (الفلستيون) مع شعوب البحر, حيث أنهم يتميزون بغطاء الرأس المليء بالريش, وسحنتهم أقرب إلى الأوروبيين, وسلاحهم السيف العريض, ويحملون دروعاً مدورة, ورماحا مسننة ومعهم عربات ذات عجلات تجرها الثيران, ومثل هذه الصفات بعيدة عن أهالي كريت, أو كفتور.
وإذ لم تكن كريت, أو كفتور, هي الموطن الأصلي للفلسطينيين, فقد اختلف العلماء أيضاً في الموطن الذي جاء منه الفلستيون قبل كريت وكفتور. فمنهم من ذهب إلى القول أنهم جاءوا من (سيليسيا ـ تراشيا) أعلى وأسفل نهر كاليكادنوس, ومنعهم من يرى أنهم «ينتسبون إلى القومية الإليرية, ومنهم من رأى أنهم يتشابهون كثيراً مع البلاسجيين, وأن لغتهم إنما كانت لهجة لوية, ومن رأى احتلالهم للجزر إنما كان إحدى هجراتهم, وأما مواطنهم فيجب أن يبحث عنه في مكان ما شمال بحر إيجه. ومن رأى أنهم ساميون يمثلون هجرة سامية مرتدة من كريت. «(محمد مهران, بنوا إسرائيل, ص 2/ 542).
ونرى أن (جاردنر) لا يجزم بأن الفلسطينيين قد جاؤوا من كفتور, أو كريت, فيقول: « ومن المتوتر أنهم جاؤوا من كفتور أو كريت ولكن ربما كانت هذه مرحلة فقط من مراحل تجوالهم في هجراتهم. «(جاردنر, مصر الفرعونية, ص 313).
ومهما يكن الأمر, أين هي (بلستين, أو فلستيا, أو غيرها) التي هاجر منها ( البلستيون)؟ لماذا لم يطلق اسمهم على المنطقة التي هاجروا منها؟ ولماذا أطلق هذا الاسم بالذات على أرض كنعان؟ وكيف يفشل شعب في إطلاق اسمه على أرضه, وينجح في إطلاق اسمه على أرض غيره؟ ولماذا هذا الاسم بالذات, وليس أياً من أسماء الشعوب الأخرى المشاركة في (شعوب البحر)؟ كلها أسئلة لم نجد لها حتى الآن أية إجابة تاريخية, أو أثرية.
ومن المعروف أن جزيرة قبرص, وجزر بحر إيجة قد شهدت هجرة كنعانية إليها منذ القدم. وكان لها علاقات تجارية متميزة مع الساحل السوري. يقول نجيب ميخائيل:
«وقد أثبتت كشوف شليمان Schliemann, في حصارليك Hissarlik, وميسيني Mycenae, وتيرينس, وأورخومينوس Orchomenos وغيرها وجود مخلفات للحضارة فيما قبل العصر الهوميري بها قطع فينيقية خالصة أو منقولة عن نماذج فينيقية أحياناً, وفي ذلك دلالة قوية على أن حضارة جزر وشواطئ البحر الإيجي كانت ذات صلة قريبة بشمال سورية أكثر من صلتها ببلاد اليونان نفسها....». (نجيب ميخائيل, مصر وبلاد الشرق الأدنى, 3/ 98, 99).
وهكذا يختلف المؤرخون على الأصل الذي جاء منه الفلستيون, حتى أصبح من العسير على الباحث أن يفضل رأياً على آخر.
ومما سبق فإننا لا نجد تأكيداً على أن الفلسطينيين (كريتو الأصل والمنشأ). وحتى من رأى أن نص الخطاب التوراتي يدل على ذلك, ينفي أن يكون أصل الفلسطينيين من (كفتور) يقول طومسون عن الفلسطينيين:«وأصولهم المزعومة في كفتور (Caphotor) مجرد خيال خلفته الروايات التوراتية كقرين لأصول يهودا نفسها».( طومسون, التاريخ القديم لشعب إسرائيل, ص 100).
ولكن ليس من المستبعد أن يكون جماعة من الفلسطينيين, قد هاجروا من الساحل الفلسطيني وسكنوا جزيرة كريت ـ وقد تكون محرفة عن قريت باللغة الكنعانية ـ من قبل. فقد أثبتت الحفريات, على أنه كانت هناك رحلات بحرية منتظمة عبر البحر الأبيض المتوسط, يقوم بها تجار سوريون و فينيقيون في أوائل الألف الثاني قبل الميلاد. وقد ذكرت «أرشيفات ماري أن ملك حاصور ـ أرسل هدايا إلى كابتار (كريت)». (خالد دسوقي, أصل الفلسطينيين, ص6).
وعودة إلى نص الملك الفرعوني رمسيس الثالث نقول:
إن سكان جزيرة كريت وهي إحدى جزر بحر إيجة, والتي كانت عاصمتها حينذاك تعرف باسم (كنوسوس Knossos) وأهلها يعرفون باسم (الكفتيون Keftians), ومن أشهر ملوكهم الملك (مينوس Minos), وهؤلاء كانوا على اتصال وعلاقات تجارية , مع بلاد الشام, ومع مصر منذ أقدم العصور.
ولكن في سنة 1400 ق.م. تعرضت منطقة جزر بحر إيجه, بما فيها جزيرة كريت, إلى هجوم من القبائل اليونانية القادمة من الشمال, وقضت على الحضارة المينوية في كريت.
والنص السابق هو مجمل الصورة التي يتناقلها المؤرخون, عند الحديث عن أصل الفلسطينيين. وفيه نلاحظ:
1ـ أن هذه القبائل كان لها من القوة والعتاد, وعدد الجنود ما يمكنها من أن يكون لها جيشان كبيران, أحدهما اتجه إلى بلاد الشام, والأخر إلى مصر.
2ـ أن الجيش الذي اتجه إلى الشام قد حارب على جبهتين, الجبهة البرية, والجبهة البحرية
3ـ لم يذكر النص في أي من الأماكن جرت المعركة البرية, ولا على أي شاطئ جرت المعركة البحرية. ولكنه يقول «تمكن رمسيس الثالث من الوصول إلى ميناء على شاطئ فينيقيا راقب منها سير المعركة البحرية التي دارت رحاها بين أسطوله وأسطول أعدائه وأدار حركة الدفاع من الشاطئ». (بريستد, مصر منذ أقدم العصور, ص 324).
مما يدل على أن المعارك كانت بعيدة جداً عن الساحل الفلسطيني الجنوبي. كما يشكك نجيب ميخائيل في هذه المعركة, فيقول: ....... ولسنا ندري أين التقى الجيشان كما لا ندري الكثير عن تفصيلات المعركة. «( نجيب ميخائيل, مصر والشرق الأدنى, ص3/ 95).
ويقول بيير جرانديه: « وحقيقة لم يستطع أحد حتى الآن أن يحدد تماماً الموقع الجغرافي لأي واحدة من هاتين المعركتين ـ البرية والبحرية ـ ولكن لا يستبعد أبداً أن المعركة الثانية, على الأقل قد قامت على ساحل فلسطين بمنطقة غزة. «( بيير جرانديه, رمسيس الثالث قاهر شعوب البحر, ص 173).
4ـ استطاعت هذه القبائل المهاجرة من اجتياح كل الدول والممالك التي كانت قائمة في بلاد الشام, وعلى الساحل , قبل أن يوقف المصريون زحفها, ومنها مملكة الحثين, حتى كاركاميش Carchemish على الفرات, ومملكة أمون على نهر الأورونط (العاصي), وجزيرة ألاسا (Alasa) أي قبرص, وغيرها, فهل حقاً كانت هذه القبائل المهاجمة من القوة, بحيث تتمكن من هزيمة تلك الممالك؟ !!
وبعد ذلك تغيب هذه الممالك وكأنها لم تكن, مما جعل توينبي يقول: «وتاريخ انسياح الشعوب في حوض البحر الإيجي بين نحو 1250 و950 ق.م. يجانبه الكثير من الأحاجي التي لم يستطع الدليل الأثري أن يحلها إلى الآن.« (توينبي, تاريخ البشرية, ص 148).
وأخيراً يقول نص بريستد: « ثم رجع رمسيس الثالث إلى مقره بالدلتا ليشترك في احتفالات النصر العظيمة التي أقيمت له عن جدارة واستحقاق. «(بريستد, مصر منذ أقدم العصور, ص 324). بهذه الصورة انتهت الحرب, وما من شك في أنها صورة يغلب عليها الطابع الخيالي, والمبالغة في قوة العدو, اعتقاداً بأن ذلك يزيد من أهمية وقوة الملك المنتصر( رمسيس الثالث). ويرى زياد منى « أن أهل الاختصاص يرون بأن الأخبار الواردة في النقوش العائدة لرمسيس الثالث عن هزيمته لشعوب البحر مبالغ فيها تماماً إن لم تكن مختلقة بالأصل.«( زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص50). وتضيف الرواية التوراتية إلى ما سبق, أن شعوب البحر بعد هزيمتها نزل (التجكر) في دور, جنوبي الكرمل, والفسطينيون في خمس مدن في الساحل الجنوبي لشرقي البحر المتوسط, وهي (غزة و أشدود, وعسقلان , وعقرون, وجت), دون أن تطرد سكانها, أو حتى تضيق عليهم, ولم تذكر شيئاً عن باقي شعوب البحر. فهل هذه الشعوب التي اكتسحت مناطق تزيد مساحتها عن مساحة فلسطين أضعاف المرات, تنزل في خمس مدن فقط؟ وكأن أحد لم يسمع بها قط؟
يقول زياد منى:
«إن التقصي العلمي بمكوناته اللغوية والآثارية والتاريخية أظهر أن المشرق العربي عرف منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأقل إقليماً باسم فلسط ـ وبصيغة الجمع الكنعانية (فلسطيم) الذي عرب لاحقاً إلى فلسطين. لكن النصوص الأدبية المتوافرة لدينا حتى الآن عن الإقليم لا تسمح بتحديد جذور أهله ولا في أي زمن حضروا إليه ولا من أين أتوا, رغم أن اللقى الآثارية متباينة, عن سكان باقي أنحاء ما يعرف تاريخياً باسم بلاد الشام. «(زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص89).
ويقينا, بأن الكنعانيين كانوا من أكثر الشعوب استيطاناً واستقراراًً وحضارة في فلسطين, منذ أوائل الألف الثالث قبل الميلاد. لقد استوطن فلسطين خليط من الشعوب ما بين 5000 ـ 2000 ق.م. فقد استوطنها غير الكنعانيين, من هاجر من بني إسرائيل ولفيف كثير معهم, من مصر. وكذلك بعض شعوب البحر التي استوطنت بعض مناطق فلسطين, وينسبهم البعض إلى الجنس (الهندو أوروبي). وبعد سقوط السامرة على يد سرجون الثاني الأشوري, سن 722 ق. م. وتهجير أهلها, أسكن فيها خليطاً من شعوب البلاد المفتوحة على يد الأشوريين. وكذلك أورشليم (أورسالم) بعد سقوطها على يد نبوخذ نصر البابلي. وهكذا سكن فلسطين خليط من الشعوب, والذين تصعب نسبتهم إلى جنس واحد فقط.
وبعد, فهل فعلاً أصل الفلسطينيين من جزيرة كريت؟
إن موضوع شعوب البحر يكتنفه الغموض والتعقيد, وعدم وجود الأدلة الكافية لنفيه أو إثباته, وقد تعددت آراء المؤرخين والعلماء حوله. ولكن يجمع الكل على أن (الفرست/البليست) هم أحد شعوب البحر, ولكنهم لا يتفقون على أنهم هم (الفيليست), وأن هذه المنطقة سميت باسم (فلسطين) تبعاً لهم.
ولو بحثنا في التاريخ, لوجدنا نصوصاً أخرى تدل على أن هذه المنطقة كانت تسمى (فلسطين) , قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد, ولذلك فإننا نرجح أن تكون هذه المنطقة قد سميت باسم (الفيليست /فلسطين) قبل مجيء شعوب البحر إليها, للأسباب التالية:
1ـ ذكر (ليونارد وولي) في كتابه الآلاخ مملكة منسية), أنه أثناء حفرياته في هذه المنطقة, وجد في السوية السابعة والسادسة نوعاً من الخزف المستورد, ظهر ما يشابهه في أماكن أخرى من سورية وفلسطين وقبرص. وعن حفرياته في السوية الخامسة يقول:
«وأما في سورية البناء الخامسة فعثرنا على خزف قبرصي يعود بتاريخه إلى ما قبل عام 1650 ـ 1550 ق.م. وعلى قطعتين خزفيتين فلسطينيتين تاريخ أحدهما هو استمرار ظهور هذين النوعين من الخزف الفلسطيني في سورية البناء الخامسة أيضاً تم العثور في نهاية عصر هذه السوية على النماذج الأولى من الخزف الملون المسمى (نوزو) التي تمت صناعته في المشرق خلال القرن الخامس عشر قبل الميلاد. «(ليونارد وولي, مملكة الآلاخ , ص 76).
2ـ إن ظهور اسم (فلسطين ـ الفلسطينيين ) في أواخر القرن الثاني عشر قبل الميلاد, يتناقض مع ما جاء في المرويات التوراتية التي ذكرت هذا الاسم في أكثر من موضع, مما يدل على أنه كان موجوداً قبل ذلك بمئات السنين, في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام.
جاء في سفر التكوين: «ثم قام أبيمالك وفكولي رئيس جيشه ورجعا إلى أرض فلسطين وغرس إبراهيم أثلا في بئر سبع ودعا هناك باسم الرب السرمدي وتغرب إبراهيم في أرض فلسطين أياماً كثيرة. «التكوين 21ـ 32ـ 34.
وأيضاً:« وكان في الأرض جوع غير الجوع الأول الذي كان في أيام إبراهيم فذهب إسحق إلى أبيمالك ملك فلسطين إلى جرار. «التكوين 26: 16 .
وقد أجمع المؤرخون أن إبراهيم عليه السلام, جاء إلى بلاد الشام وفلسطين قبل القرن السادس عشر قبل الميلاد على أقل تعديل.
وكذلك الأمر بالنسبة لشعب فلسطين (الفلسطينيين). فقد ورد هذا الاسم في العهد القديم أكثر من مرة, وفي نفس الفترة التي ذكر فيها اسم (فلسطين) كموقع. يقول الخطاب التوراتي عن اسحق عليه السلام: « فكان له مواش من الغنم ومواش من البقر وعبيد كثيرون. فحسده الفلسطينيون. وجمع الآبار التي حفرها عبيد أبيه في أيام إبراهيم طمها الفلسطينيون وملأوها تراباً». التكوين 26: 14, 15
ويكرر ذلك في الإصحاح 26: 18 . و يتضح من ذلك أن فلسطين والفلسطينيين, كانوا موجودين قبل خروج بني إسرائيل من مصر, بقيادة موسى عليه السلام بعدة قرون, وأنهم أصحاب الأرض الأصليين, وليسوا دخلاء عليها.
وإذا كان إبراهيم عليه السلام, ومن بعده اسحق عليه السلام, قد زارا ملك الفلسطينيين (أبيمالك) في جرار, في موطنه, فإن هذا الاسم, اسم عربي, مما يدل على أن الفلسطينيين كانوا عرباً, وليسوا من شعوب البحر.
وفي أيام خروج موسى عليه السلام من مصر, في القرن الثالث عشر قبل الميلاد, نرى أنه يتجنب المرور بأرض (الفلسطينيين), كما جاء في المرويات التوراتية, تفادياً للصدام معهم, مما يدل على أنهم كانوا قوة يخشى بأسهم في ذلك الوقت. «وكان لما أطلق فرعون الشعب أن الله لم يهدهم في طريق أرض الفلسطينيين مع أنها قريبة, لأن الله قال لئلا يندم الشعب إذا رأوا حرباً ويرجعوا إلى مصر. الخروج 13: 17
وأيضا: « يسمع الشعوب فيرتعدون. تأخذ الرعدة سكان فلسطين, حينئذ يندهش أمراء آدوم, أقوياء مؤاب تأخذهم الرجفة, يذوب جميع سكان كنعان. «سفر الخروج 15: 14, 15 . ويعلق سيد القمني على ذلك فيقول: «هكذا نجد أرض كنعان قد حملت اسم (فلسطين) زمن الخروج من مصر, مما يعني أن الفلسطينيين كانوا قد استقروا هناك قبل الخروج بزمن سمح بتعميم اسمهم على أرض كنعان. «(سيد القمني, النبي موسى, ص 2/ 601). وهذا بالتأكيد قبل قدوم شعوب البحر إلى المنطقة.
« لقد أدرك الخطاب الكتابي حراجة موقفه وهو ما جعله يحل هذه المفارقة الصارخة بالقول إن المقصود بالاسم الوارد في سفر التكوين ليس الإقليم نفسه وإن هذا تشابه لفظي ليس لا. «(زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم , ص 64).
وقد ذهب بعض المؤيدين للخطاب التوراتي لتبرير هذا التناقض, بادعائهم أن بعض الأقوام الإيجية ومنهم طبعاً (الفلسطينيون) كانوا يقيمون في ذلك الوقت كتجار في (جرار). أنه كان لهم مستعمرات يقيمون فيها. في ذلك العصر, وفي تلك المنطقة, التي سميت باسمهم. وهذا , فإن الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام يختلفون كلياً عن شعب (البرست (Prst الذين جاءوا مع شعوب البحر. ومن هؤلاء ألبرايت Albright, أستور Astour, وهو إدعاء ينقصه الدليل والبرهان.
3ـ يوصف (الفرست/البلست) القادمون مع شعوب البحر بأن رجالهم «كانوا شقراً يرتدون ملابس تختلف تماماً عن ملابس السوريين, فقد كان رداؤهم يتكون من مئزر قصير بهيج الألوان له حواف مزخرفة وينتهي في نقطة بالمقدمة, وكانوا ينتعلون أحذية عالية مزينة بألوان زاهية, أما وجوههم فحليقة ولهم شعر غزير ينسدل في ضفائر طويل على الأكتاف وغالباً ما يكون له خصلات كبيرة على الجبهة. «(شيندوروف, عندما حكمت مصر الشرق, ص 132)ز
كذلك يلاحظ من الرسومات المنقوشة على جدران معبد هابو أن «(الفرست, والتجكر, والدانونا), كانوا يرتدون زياً واحداً يتكون من سترة على الصدر محلاة بشرائط مدلاة من طرفها السفلي, بينما تغطي رؤوسهم خوذة يعلوها ما يشبه العرف من الريش. «( خالد دسوقي, أصل الفلسطينيين, ص 10)
في حين أننا لم نلحظ ذلك في الشعوب التي كانت تسكن تلك المنطقة في أوائل العصر الحديدي. حيث يوصف سكان المنطقة بأنهم «يتركون شعورهم ولحاهم تنمو مسترسلة , بل أن شعرهم يتدلى في خصل كثيفة خلف رؤوسهم حتى الأعناق ويجمعونه فيما يشبه الشبكة فوق جباههم بينما نجد وجوههم تكللها لحى كثيفة سوداء تنتهي مدببة أسفل الذقن.... ويفضلون الأقمشة المغزولة أو المطرزة بالرسوم الملونة الزاهية.« (شيندروف, عندما حكمت مصر الشرق, ص68). ويقول سليم حسن عن الفنيقيين, وهم كنعانيون كالفلسطينيين: « كانوا لهم شعر ولحى طويلة, كما كانوا يلبسون فوق دثارهم عباءة ملونة كان يرتديها عظماء «سوريا. «(سليم حسن, مصر القديمة, ص 5/ 196). وعن البحارة يقول: « أما البحارة فكانت شعورهم قصيرة ولا يرتدون إلا لباساً يغطي وسطهم. «( سليم حسن, مصر القديمة, ص5/197).
4ـ إن آلهة (الفيلست) الذين كانوا يعيشون أصلاً في فلسطين, هي آلهة عربية, سامية, معروف في المشرق العربي, وفي حوض الفرات الأعلى منذ عهد سرجون الأول, وكذلك إيبلا (تل مرديخ), و أوغاريت (رأس الشمرا). والإله (أثار جاتس) العسقلوني. و( بلعزبوب) العقروني.
ولكننا نجد الخطاب التوراتي يصور لنا أن هذه الآلهة, قد جاءت مع (الفرست وشعوب البحر), وأنهم نشروا عبادة هذه الآلهة في المنطقة, وهذه مغالطة تاريخية, فهؤلاء القادمون من جزر إبجة, لم يكونوا يعرفون شيئاً عن هذه الآلهة.
ولو افترضنا جدلا بأن ما تدعيه التوراة بأن هذه الآلهة هي آلهة (الفرست), وأنهم هم الفلسطينيون, لسلمنا جدلاً بأن هذا الشعب وغيره, كانوا موجودين في ذلك الوقت وقبله في المنطقة, وليسوا غرباء عنها, وهذا ما توحي إليه إشارة مدينة هابو إلى الـ (بيليست) بأنهم, المختبئون في مدنهم. «(طومسون, التاريخ القديم لشعب إسرائيل, ص 186).
5ـ لم تحدد نوقش (هابو), ولا برديات هاريس التاريخ الذي التقى فيه رمسيس الثالث مع شعوب البحر, ولكن على الأغلب فإن ذلك قد تم في الخمس سنين الأولى من حكمه (1198 ـ 1167 ق.م.) التي كانت تعرف باسم (سهل فيلستيا أو سهل فلسطين) نسبة إلى شعب سكن هذه المنطقة بهذا الاسم, بأن الخزف الذي كانت تصنعه شعوب هذه المنطقة كان يسمى (الخزف الفيلستي), وقد ضم عدة أشكال وتقنيات ونقوش مستمدة من النقوش المحلية والميسينية, وهذا « لا يعني أي أصل محدد, لأن مثل هذه الأواني قد وجد في مواقع عديدة في إبجة وعلى طول الساحل الكليكي. وفي أي حال, فالواضح هو أن الأواني نفسها صنعت في فلسطين وتواصلت أشكالها وزخارفها في العصر الحديدي الأول كأوان محلية مستمدة من أشكال وزخارف الأواني الفلسطينية في العصر البرونزي الأخير. « (طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ص 184).
وقد أثبت (مكليلان T.L.McClellan ) في دراسته لأواني (تل الفارعة Tellel-Farah ) أنه لا توجد علاقة بين الأواني الفلسطينية, ووصول الفلستيين (الفرستيين) إلى فلسطين, أو وجودهم هناك. كما أن (تي . دونثان T.D) توصلت إلى نفس النتيجة, وأن الرسوم والنقوش المسينية لم تنتقل إلى فلسطين فقط, بل إلى قبرص وسورية وأماكن أخرى, ويجب عدم ربط ذلك بالتاريخ الذي هاجمت فيه شعوب البحر المنطقة, فقد ثبت تاريخياً بأن هجرات إيجية مختلفة قد استوطنت الساحل الشرقي للبحر المتوسط, قبل هذا التاريخ بقرون.
كما أن تطور النقوش الخزفية الفيلستية في ذلك العصر, وإن كانت مشابهة للنقوش المسينية في بعضها, ليس بالضرورة اعتبارها نقوشاً على أيدي خزافين ميسينيين استوطنوا المنطقة مع شعوب البحر, بل يمكن اعتبارها تطوراً في النقوش الخزفية الفيلستية المستخدمة. ويعلق طومسون على ذلك فيقول: « هذه الأواني المختلطة تشير إلى اندماج نمطين متميزين من الخزف. ولا يستطيع المرء تحديد إثنية الخزاف, ومن باب أولى, إثنية المستوطنات التي وجد بها الخزف. «(طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي , ص 187).
ولو اقتنعا بنص (بريستد) السابق, من أن رمسيس الثالث كان يراقب المعركة من على شاطئ أصلاً إلى منطقة (فيلستيا /فلسطين) الجنوبية. ومن الممكن جداً أن تكون هذه المعركة البحرية قد وقعت أمام سواحل فينيقيا, وليس في جنوبي فلسطين, حيث أن هذه كانت تفتقر إلى الموانئ البحرية الهامة في ذلك التاريخ.
6ـ من قراءتنا للتاريخ قديمه, وحديثه, نرى حقيقة تاريخية, لا زالت ماثلة منذ أقدم العصور, وهي أنه ما من شعب ينتمي لخارج هوية الإقليم, استطاع أن يغير اسم ذلك الإقليم تبعاً لجنسيته, أو عرقه, أو دينه, أو غير ذلك.
فقد شهد إقليم (فيلستيا/فلسطين) احتالاً من كثير من الممالك والإمبراطوريات لعدة قرون, منهم البابليون, والأشوريون, والفرس, والإغريق, الرومان, والمسلمون, والتتر, والأتراك, والمستعمرون الأوروبيون, ولم يتمكن أحدهم من تغير طبيعة أو هوية الإقليم باستمرار, وأنه إذ قام أحدهم بتغيير الاسم, لا يلبث أن يعود الاسم القديم إلى الظهور بعد زوال المحتل.
وعليه, فإنه لمن المستبعد القبول بقول من يرى أن (فلسطين) سميت هذا الاسم نسبة إلى (الفرست), أحد شعوب البحر, وكان الإقليم لم يكن له اسم قبل ذلك.
ومن ناحية أخرى, فإن هؤلاء الذين يقرون التوراة على ادعاءاتها, ومنها أن الفلسطينيين قد سكنوا المدن (الخمس), بعد استقرارهم في الساحل الجنوبي من فلسطين فإن هؤلاء القادمون الجدد ـ حسب الرواية ـ لم يغيروا أسماء هذه المدن, ولم يبنوا مدناً جديدة, وهذا يختلف كلياً عما درج عليه الحال في فلسطين على مر العصور.
فالأشوريون, والبابليون, والفرس, والسلوقيون, والبطالسة, والروم, والمسلمون, وكل من احتل فلسطين, قام بإنشاء مدن جديدة, وغير بعض أسماء المدن التي كانت قائمة من قبل, ولو إلى حين, ما عدا هؤلاء (شعوب البحر), لم يفعلوا شيئاً من هذا القبيل, مما يجعلنا نشك كثيراً في تلك الرواية من أساسها.
7ـ لا شك في أن شعوب البحر, ومن ضمنهم (الفرست), كانوا يتكلمون بلهجة (لغة) تختلف عن اللغة الآرامية ولهجاتها المختلفة, التي كانت سائدة في المنطقة. ولم يحدثنا التاريخ أن هذه الشعوب, استطاعت أن تنشر لغتها في المنطقة, أو أنها قد تركت بعض الرموز والآثار التي تدل على هذه اللغة, مما يدل على أنهم كانوا يتكلمون لغة البلاد (الكنعانية), وبالتالي فليس من المستبعد أنهم قد جاءوا من المنطقة, وليس من خارجها.
8ـ إن الفلسطينيين المذكورين في سفر التكوين في زمن إبراهيم وإسحق عليهما السلام, يختلفون كلية عن الفلسطينيين المزعومين الذي ظهروا في أوائل عصر الحديد. ففلسطينيو سفر التكوين كانوا يقيمون في جرار (أبو حريرة حالياً) ـ وقيل غير ذلك ـ وكان يحكمهم ملك اسمه (أبيمالك), ولم يستوطنوا المدن الخمسة المذكورة فيما بعد . كما أنهم كانوا مسالمين, ويظهر هذا جلياً من معاملتهم لإبراهيم وإسحق عليهما السلام, فلم يكونوا أصحاب قتال ونهب وسلب, كالذين جاؤوا إلى فلسطين مع شعوب البحر.
9ـ يفهم من الخطاب التوراتي, إن الفلسطينيين الذين كانوا يعيشون في المنطقة الجنوبية من السهل الساحلي السوري, وكذلك من النصوص المصرية والآشورية فيما بعد, أنهم ذو إثنية مشتركة متواصلة, ولم تنقطع هذه الإثنية يوماً ما.« فرأي معظم مؤرخي فلسطين القديمة, وليمخي أن فلسطينيوا المرويات التوراتية هم الشعب الذي عاش في السهول الساحلية و الوسطى والجنوبية من فلسطين, والذي لعب دوراً رئيساً في التطورات التاريخية في فلسطين في بدايات العصر الحديدي...«(طومسون, التاريخ القديم للشعب الإسرائيلي, ص98). وأن الدور الذي قاموا به في عصر الحديد ليس دور حراس, أو خلفاء للسيادة المصرية على المنطقة, وإنما يمثل أصحاب تاريخ لهم دورهم في الحياة السياسية والاقتصادية والحضارية, التي جرت أحداثها على أرض المنطقة. وأن مجيء شعوب البحر, واستقرار بعضهم في هذه المنطقة, لم يؤثر في هذا الدور, وأن ما قام به شعوب البحر ما هو إلا دور مؤقت في خدمة ملك مصر, وليست لهم أية علاقة بما كان يقوم به أصحاب الأرض الفعليون.
10ـ باعتراف المؤرخين أن شعوب البحر, قد ذابوا في المجتمع الكنعاني (تكنعنوا) خلال قرن واحد من الزمان. والتاريخ أعلمنا, أن الشعب الأضعف هو الذي يذوب في الشعب الأقوى. فإذا كانت شعوب البحر من القوة والحضارة التي يتحدث عنها التاريخ, فلماذا هذه الشعوب ذابت في المجتمع الكنعاني بهذه السرعة؟ ولماذا لم تترك هذه الشعوب أي أثر لها على الساحل الفلسطيني يذكر بقوتها وحضارتها, إن كانت فعلاً كما يذكرها به التاريخ؟
الأغلب, أن هذه الشعوب كانت أقواماً بحرية همجية, لم تصل حضارتها الحد الأدنى الذي وصلت إليه الحضارة الكنعانية, ولم يكن لهم تعداد الكنعانيين السكاني, ولم تكن لهم لغة واحدة تستطيع أن تحل محل اللغة الكنعانية, ولهذا سرعان ما ذابوا في المجتمع الكنعاني, مما يصعب معه القول أن الإقليم (فلسطين) سمي بهذا الاسم على اسمهم.
11ـ إن رواية التاريخ الذي وصلنا عن شعوب البحر, تقول بأنهم قد غزوا المنطقة بكامل تعدادهم, وعددهم , ورجالهم, وشيوخهم, ونسائهم, وأطفالهم, وكل ما يستطيعون حمله, فهل من المعقول أن يقرر شعب ما , ترك أرضه والمغامرة بكل وجوده في ركوب البحر, أو المسير برا, لمقاتلة أقوام لا يعرف مقدار قوتهم؟ ومتجهاً إلى جهة غير محدودة, أي بقايا هذا الشعب ( البلستي) في وطنه الأم؟ أين بقاياه في أي مكان تحدث عن التاريخ كوطن أصلي لهم؟ ولماذا لم يحدثنا عن ذلك فيما بعد؟ إن التاريخ صامت, لأنه لا يعرف شيئاً عن ذلك.
12ـ للباحث محمد بغدادي رأي لم يسبقه أحد فيه, في تفسيره لمعنى كلمة (فلسطين), نلخصه فيما يلي:
«إن تسمية فلسطين خرجت من قاموس القرشاي, الذين هم أحد الشعوب السورية. فإن فلسطين, أو بلستين, أو بلسط + ياء النسبة. كل هذه الصيغ والتحولات في اسم فلسطين, إنما تمت ضمن إطار القواعد الصارمة ولا شواذ في الأمر. وكما تعلم أن اللغات القديمة كانت تكتب بالمقاطع الصامتة, وقد جرى تحريكها فيما بعد. فالاسم (بلسطي) يكتب هكذا:
بل+سط+ي
بل: بكسرة منخفضة على الباء واللام تعني (معروف, مشهور)
سط: بفتحة على السين, وضمة على الطاء, تعني (تجارة)
ي: بهمزة مضمومة, تعني (بيت)
بل سط ي= بيت التجارة المشهور
أما إذا كانت الباء مشددة فإن معناها يصبح (صاحب), بدلاً من (بي) , واعتماداً على ذلك فإن بل+سط+بي= صاحب التجارة المشهورة.
وإذا اعتبرنا الياء ياء مشددة, فإن معناها يصبح (صاحب) , بدلاً من (بيت) , واعتماداً على ذلك فإن بل+سط+بي= صاحب التجارة المشهورة.
وإذا اعتبرنا الياء, ياء النسبة ولا علاقة لها بمعنى فلسطين فالأمر لا يتغير (بل +سط) وهي الصيغة التي دونت في الكتابات المصرية, فذلك يعني (التجارة المشهورة).
وإذا كانت (بلشتي), لا يتغير المعنى لأن الشين والسين بنوب أحدهما عن الآخر.
وإذا كانت بلستي (بالتاء) وليس بالطاء, فالأمر سيان, لأن الطاء تفخيم التاء. فأي حرف استعملناه في الكلمة, فإن المعنى يبقى يدور في فلك واحد, ويدل على شيء واحد, وهذا الشيء متعلق بالشهرة والتجارة, وهي صفة سكان أرض كنعان الأساسية.
بقي علينا أن نفسر الآن كيف تحولت (بلسطي) إلى فلسطين:
فلسطين: في اللغة العربية تتبادل الفاء والباء مواقعهما, ولا يغير ذلك في معنى الكلمة شيئاً. مثل (وقف ـ وقب), (وجف ـ وجب). إذا, لا تترتب أية استحالة على انقلاب الباء في (بلسطين), إلى فاء في (فلسطين). بقيت النون, وهي من أحرف الزيادة التي تضيفها اللغة العربية الحديثة, إلى أواخر الكلمات لتحسين السمع الموسيقي للكلمة.
إذا, فالتسمية لم تطلق عبثاً.. بل أطلقت عليه لتعبر عن مهنتهم تماماً, وهي مطابقة للصفة الأساسية التي يمتاز بها السكان الأصليون, ألا وهي التجارة. «( محمد بغدادي, فلسطين والقرشاي, ص 36ـ4- بتصرف).
ويلخص زياد منى الحديث عن الاسم (فلسطين) بقوله:
« نلخص ما توصلنا إليه حتى الآن من معارف, بالقول إن التقصي العلمي بمكوناته اللغوية و الآثارية والتاريخية أظهر أن المشرق العربي عرف منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد على الأقل إقليماً باسم فلسط ـ وبصيغة الجمع الكنعانية (فلسطيم) الذي عرب لاحقاً إلى فلسطين. « زياد منى, مقدمة في تاريخ فلسطين القديم, ص 89).
فلسطين الإقليم:
يرى توماس أن حدود فلسطين كإقليم «إنما يتمركز على الشريط الساحلي المتوسطي الشرقي. تحدها المنطقة المناخية المتوسطية الخصيبة للمشرق الجنوبي على جانبي فالق الأردن« (طومسون, الماضي الخرافي التوراة والتاريخ, ص 367).
ففلسطين كإقليم تاريخي يضم كل المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن, وكذلك على منطقة لا تقل في بعدها عن خمسين كيلومتراً شرقي النهر. ومن الجدير بالذكر أن صندوق اكتشاف فلسطين, قد نشر خريطة لفلسطين عام 1890م, شملت الأراضي غربي النهر وشرقه, وكانت تطلق على ذلك اسم فلسطين الغربية, وفلسطين الشرقية.
وترى التوراة أن إقليم فلسطين, والذي تعود تسميته إلى اسم قوم جاءوا مع شعوب البحر, أن هذا الإقليم انحصر منذ بدايته في الشريط الساحلي الجنوبي الشرقي لشاطئ البحر الأبيض المتوسط. وكانت مدنهم الرئيسية (خمس) مدن, وهي : أشدود (العاصمة), وعسقلان, وغزة وعقرون, وجت. ومع أنه كان لكل مدينة زعامتها وسيادتها المستقلة, إلا أن هذه المدن كانت تتحد عندما تتعرض أحدها لأي خطر.
وحتى هذا الادعاء له ما يعارضه تاريخياً وأثرياً, حيث أن التنقيبات الآثارية أظهرت وجود أثار تعود لما يسمونه بشعوب البحر, قد انتشرت في معظم أنحاء فلسطين, شرق النهر وغربه.
وقد تحدث هيرودوت عن منطقة الشاطئ الشرقي للبحر الأبيض المتوسط, فقال:
« ووصل عدد المشاة إلى ألف ومائة وسبعة أشخاص, وكانت الأقوام التي وفرتها هي التالية: الفينيقيون وسوريو فلسطين معاً ثلاث مائة. وكانوا مسلحين على النحو التالي: كانوا يرتدون خوذة على الرأس تشبه إلى حد كبير رديفها الإغريقي, وقميصاً من الكتان ودرعاً دون أطراف ورمحاً. ووافق ما يقوله الفينيقيون, فقد كانوا في العصور القديمة يعيشون على ساحل البحر الأحمر, ولكنه قاموا لاحقاً بالانتقال عن سورية إلى الساحل الشريطي الذي يقطنونه حالياً. وتعرف هذه المنطقة من سورية وما يليها جنوباً حتى مصر بفلسطين. «(هيرودوت, التاريخ, ص522)
وعندما يتكلم عن السكيثيين في مسيرتهم وزحفهم إلى بلاد الشام ومصر, يقول: «ولما تم لهم هذا زحفوا إلى مصر للاستيلاء عليها, فلما بلغوا فلسطين وجدوا أمامهم ملك مصر بسميتاك.«(هيرودوت, التاريخ, ص81).
وهم يعتبروهم سوريون, وليسوا غيرهم, فيقول:«لا يمكن دخول مصر إلا عن طريق عبور الصحراء, ويسكن البلاد الممتدة من أرض الفنيقيين حتى حدود مدينة كاديتس (غزة) السوريون الذين يسمون «الفلسطينيون». « (هيرودوت, التاريخ, ص 219).
وكذلك أيضاً عندما يتكلم عن الختان, فيقول: « وهذا أمر يقر به الفنيقيون والسوريون سكان فلسطين فيقولون بأنهم إنما أخذوا هذا التقليد عن المصريين. « (هيرودوت, التاريخ, ص178).
وهو يعتبر فلسطين جزءا من سورية, فيقول: « إن النصب التي أقامها سيوستوريس ـ(يعتقد أنع سنوسرت الأول أو سنوسرت الثالث من الأسرة الثانية من عشر) ـ في البلاد التي قهرها قد زال معظمها, ولكن رأيت بأم العين تلك النصب ما تزال قائمة في ذلك الجزء من سورية المسمى فلسطين. «(هيرودوت, التاريخ, ص 179).
وإن عدم استعمال هيرودوت أيا من الأسماء الإسرائيلية (مملكة يهوذا, مملكة إسرائيل, بنو إسرائيل, السامرة, داود, سليمان, الهيكل, وغيرها) في كتبه, يدل على أن هذه الأسماء لم تكن على قدر من الأهمية, بحيث تظهر كلها أو بعضها, عند الحديث عن المنطقة جغرافيا.
وكما يلاحظ من وصفه للمنطقة, أن فلسطين كانت تشمل كل المنطقة الواقعة من صور شمالاً, حتى غزة جنوبا, وهذه المنطقة عرفت عند الرومان باسم (فلسطين) في أوائل القرن الثاني الميلادي.
وقد ذكر اسم الإقليم (فلسطين), في السجلات المصرية باسم (رتنو, رتنو العليا), و(كناخي) أي بلاد كنعان. وفي العهد الآشوري (القرن الثامن قبل الميلاد) ذكرت فلسطين التي تشمل الجزء الجنوبي من الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط» «وقد أصبحت فلتسيا مقاطعة أشورية في أواخر القرن الثامن.» « (حمدان طه, تاريخ الفلستينيين, رسالة ماجستير, ص 18). وكذلك في العهد الروماني.
وكذلك في زمن الدولة العثمانية, حتى في عهد الانتداب البريطاني, كان هذا الإقليم يعرف باسم (فلسطين), وبقي الأمر كذلك حتى سقوط فلسطين بأيدي الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948 م, فأصبح الاسم (فلسطين , و إسرائيل) وأصبح الاسمان يستخدمان حسب الرأي والمزاعم.
--------------------
من كتابه (تاريخ فلسطين قبل الميلاد