إن من أشد الأمور خطورة في مسيرة الكثير من الحركات الإصلاحية هذه الحالة المستشرية من السطحية والفوضوية في حركة هذه التيارات فمعظمها إن لم يكن كلها لا تمتلك في واقع الأمر أجندة مسبقة في كيفية الوصول لأهدافها، وتعتمد كثيرًا على التوفيق الرباني لمسيرتها والتميز الفردي الموجود في بعض قادتها... لذلك فإن رغم ما تجده من إسهامات وإنجازات لهذه الدعوات والحركات على مستوى الأفراد أو الجماعات إلا أن مسألة التمكين والخلافة بعيدة كل البعد عن الواقع العملي حتى أننا من شدة بعده نجد أن هذا الهدف ـ أقصد التمكين وإقامة شرع الله في أرضه ـ قد أصبح غائبًا تمامًا من الخطاب الدعوي كأنه حلم بعيد المنال محال الحدوث، وذلك كله بسبب الغفلة عن سنة الله عز وجل في التمكين والاستخلاف الذي جعل الله عز وجل له شروطًا ومقدمات لا بد من سلوكها وتعاطيها ليصل بإذن الله للنتيجة المنشودة، وبين أيدينا الآن نموذجًا لكيفية الوصول لهدف التمكين رغم مغايرته لطريق المسلمين ولكننا نتعلم ولو من أعدائنا الذين كانوا وما زالوا وسيظلون يخططون ويدبرون للنيل من المسلمين والكيد لهم، وللأسف المسلمون في غيبوبة عميقة عما يدبر لهم في الخفاء.
اليهود وفلسطين:
ـ لقد حاول اليهود من قديم الأزل إيجاد موطأ قدم لهم في بقعة ما من الأرض تكون لهم نقطة تجمع وتوحد ليفروا مما كتب عليهم من الهوان والذل بما كسبت أيديهم عبر العصور، ولقد تجسد هذا الحلم عندهم في أرض الشام عمومًا وفلسطين وسيناء خصوصًا، لذلك فإنك تجد أن لليهود محاولات قديمة للتجمع بأرض فلسطين مهدوا بها السبيل ولفتوا الأنظار نحو قضيتهم المزعومة، وبدأت هذه المحاولات فردية ثم تحولت عبر السنين إلى مؤسسية وكان التسلسل الزمني لهذه المحاولات كالآتي:
ـ دعوة شبنساي زيفي: وهو مؤسس فرقة الدونمة اليهودية التي ظهرت في القرن السابع عشر الميلادي في الدولة العثمانية، وهو رجل ادعى النبوة وأنه المسيح المنتظر وانتشرت دعوته بين اليهود، وهو أول من نادى بعودة اليهود إلى فلسطين، ولما انكشف أمره وكاد أن يعدم ادعى الإسلام وأمر أتباعه بادعائه، وظلوا سرًا على يهوديتهم، وعرفوا باسم يهود الدونمة، وكان لهم أبلغ الأثر في إسقاط الخلافة العثمانية.
ـ دعوة نابليون بونابرت: وذلك أثناء حصاره لمدينة عكا سنة 1214هـ عندما أرسل برسالة لكل يهود العالم وأطلق بيانًا باسم 'الورثة الشرعيين لفلسطين' دعاهم فيه للتجمع والاستيلاء على فلسطين.
ـ دعوة جايم مونتفيور: وهو سمسار إيطالي الأصل قابل محمد علي بعد أن استولى على فلسطين أثناء حربه الظالمة على الشام والدولة العثمانية وعرض عليه شراء فلسطين لتكون وطنًا قوميًا لليهود، ولكن محمد علي رفض ذلك العرض، ولم ييأس هذا الرجل النشيط فلقد استطاع أن يحصل على قطعة أرض في فلسطين بطريق الخداع وعهد باستغلالها إلى خمس وأربعين أسرة يهودية وذلك سنة 1261هـ.
ـ دعوة الحاخام كاليشار: وذلك في كتابه الشهير والموروث عند اليهود لوقتنا الحالي [البحث عن صهيون] وذلك سنة 1281هـ، ودعا فيه اليهود للمبادرة بغزو فلسطين فورًا وبلا تردد واحتلالها بشتى السبل، وردد نفس الشيء 'موسى هنيس' الألماني في كتابه [روما والقدس] حيث دعا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين.
اليهود والدولة العثمانية:
ـ ونظرًا لأن اليهود يؤمنون بالمثل الإنجليزي السائر 'بطيء ولكن أكيدSLOW BUT SURE ' فلقد بدأوا في التمهيد بغزو فلسطين بمحاولة الهجرة أولاً شيئًا فشيئًا إلى بلاد الشام ومصر عمومًا وسيناء وفلسطين خصوصًا وكان الناس على وعي تام بمخاطر اليهود ومكائدهم فرفعوا عرايض للسلاطين العثمانيين بخطورة هجرة هؤلاء إلى أرض الشام، وكان السلاطين وقتها على مستوى المسئولية فوقفوا بالمرصاد لهذه المحاولات وأصدروا أوامر مشددة لولاة الشام تحرم على اليهود سكنى فلسطين وسيناء، من هذه الأوامر:
ـ فرمان سليم الأول: وقد أصدره سنة 924هـ ومنع فيه هجرة اليهود إلى سيناء وطرد أي يهودي يدخل تلك المنطقة فورًا.
ـ فرمان سليمان القانوي: وأكد فيه الفرمان السابق لأبيه سليم الأول مما يوضح أن الخطر اليهودي كان لا يزال ماثلاً على سيناء وفلسطين.
ـ فرمان مراد الرابع: ولقد أصدر هذا السلطان ثلاثة فرمانات متتالية 989هـ السبب في ذلك أن اليهود رغم كل هذا التشديدات لم يكفوا عن محاولاتهم الهجرة إلى سيناء بداية من مدينة الطور، وهي مدينة ساحلية بها ميناء واسع يصلح للاتصال مع الخارج فتكون بذلك نقطة تجمع مثالية، وكان يقود هجرة اليهود للطور رجل اسمه 'إبراهام' الذي استوطن هو وبعض العائلات هناك، ولم ينكشف أمره حتى اشتكى رهبان دير سانت كاترين للدولة من إيذاء اليهود لهم فصدرت الأوامر السابقة لطردهم من سيناء.
السلطان عبد الحميد واليهود:
يعتبر السلطان العثماني عبد الحميد الثاني أقوى من وقف أمام محاولات اليهود لاحتلال فلسطين وظل صامدًا طيلة فترة حكمه التي امتدت ثلاثة وثلاثين سنة متصلة كان فها عبد الحميد العقبة الكؤود التي تحطمت عليها محاولات اليهود للاستيلاء على فلسطين، ولم يتمكن اليهود من هدفهم إلا بعد الإطاحة بالسلطان الصالح عبد الحميد رحمه الله، أما عن أهم مجهودات السلطان عبد الحميد في الدفاع عن فلسطين:
1ـ أصدر فرمانًا سنة 1300هـ لولاة القدس وبيروت واللاذقية وحيفا بمنع أي يهودي خاصة من روسيا أو رومانيا أو بلغاريا من أن تطأ قدمه أرض فلسطين، وذلك بعد محاولات كبار اليهود باليونان.
2ـ أصدر فرمانًا آخر سنة 1301هـ لرؤساء البعثات الدبلوماسية في الأستانة جاء فيه صورة قرار مجلس الوزراء العثماني بمنع استيطان أو استقرار اليهود الروس في فلسطين.
3ـ أصدر فرمانًا آخر بألا تزيد مدة إقامة اليهود الراغبين في زيارة فلسطين عن ثلاثين يومًا ثم عُدل بثلاثة شهور بعد ضغط من القنصليات الأجنبية.
4ـ أصدر قرارًا يحرم بيع أراضي الحكومة بفلسطين مطلقًا لليهود بما فيهم رعايا الدولة العثمانية، وذلك بعدما اكتشف قبول بعض الموظفين الرشوة من اليهود مقابل تسهيل شراء أراض بفلسطين.
5ـ وقف كالطود العظيم أمام محاولات زعيم الصهيونية العالمية 'هرتزل' النمساوي الذي سعى كثيرًا للاجتماع مع السلطان عبد الحميد حتى استطاع ذلك بعد محاولات مضنية وفي هذا الاجتماع عرض على السلطان عبد الحميد دفع مبلغ عشرين مليون ليرة ذهبية مقابل شراء فلسطين لتكون وطنًا لليهود وسداد ديون الدولة العثمانية، وجاء رد عبد الحميد قويًا ناصعًا درة على جبين الأمة نارًا على الخونة والعملاء والجبناء المنهزمين حيث قال له: 'إن فلسطين ليست أرضي إنما أرض المسلمين الذين حاربوا في سبيل هذه الأرض ورووها بدمائهم، دع اليهود يحتفظوا بملايينهم فإذا تفككت إمبراطوريتي فإن اليهود قد يحصلون على فلسطين بدون مقابل، ولكنهم لن يصلوا إليها إلا على أشلاء أجسامنا بعد تمزيق أوصالها.
المؤتمر العالمي:
ـ عندما وصلت محاولات ومجهودات اليهود إلى تلك المنطقة قرروا تغيير خططهم واتباع استراتيجية جديدة تقوم على المخططات السرية التي تكون بمثابة ميثاق ودستور لعمل اليهود في شتى بقاع الأرض للوصول إلى هدفهم المنشود، فدعا هرتزل كبار رجال اليهود في ذوي الرتبة العالمية عندهم وفق معيار خاص للتدرج في القيادة والتوجه لاجتماع بمدينة بازل بسويسرا وذلك سنة 1315هـ وعرض عليهم مشروعه لاختيار وطن قومي لليهود بمكان من ثلاثة [فلسطين ـ كينيا ـ الأرجنتين] وقال لهم 'الصهيونية هي عودة اليهود لليهودية حتى قبل عودتهم إلى الأرض اليهودية' وقد وقع اختيارهم بالقطع على فلسطين، وكانت كلمة هرتزل تعني أنه لا بد من صبغ الاتجاه اليهودي لاغتصاب أرض فلسطين بالصبغة العقدية الصرفة ويكون الاستيلاء عليها باسم الدين ومع ضمان التأييد الدولي عامة والأوروبي خاصة لهذا المخطط.
ـ الجدير بالذكر أن هذا المؤتمر وضع فيه ميثاق العمل الصهيوني واليهودي على شكل بروتوكول ملزم يرقى لمنزلة الكتب المقدسة عرف تاريخيًا بعد انكشاف أمره بعد ذلك بأربعة سنوات باسم [بروتوكولات حكماء صهيون] ويقوم في أساسه على العصبية الشديدة للجنس اليهودي وللنظرة الدونية والأممية لسائر شعوب [الأرض].
ويبقى أن نقول أن هرتزل نفسه كان لا يتوقع أبدًا النجاح الكبير لقيام دولة اليهود بفلسطين الذي نراه ونعايشه الآن، وحاول أن يصرفهم عن اختيار فلسطين كوطن وقال لباقي أعضاء المؤتمر: 'لست أنصحكم أن تهاجروا إلى فلسطين فذلك خطر عليكم'. ولكنهم رفضوا وأصروا على اختيارهم، ولعله كان خائفًا من رد فعل المسلمين إذا ما اغتصبت مقدساتهم ... وهو بالقطع لم يدر إلى أي مستوى وصل إليه المسلمون من الذلة والهوان.